فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عادل:

قوله تعالى: {والذين آمَنُواْ مَعَهُ}.
ليس المراد منه المعيّة في الإِيمان، لأنَّ إيمانهم لم يكُن مع إِيمان طَالُوت، بل المراد: أَنَّهم جاوزا النَّهر معه لأَنَّ لفظ مع لا تقتضي المعيَّة لقوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْرًا} [الشرح: 5] واليسر لا يكون مع العسر. اهـ.

.قال الفخر:

لا خلاف بين المفسرين أن الذين عصوا الله وشربوا من النهر رجعوا إلى بلدهم ولم يتوجه معه إلى لقاء العدو إلا من أطاع الله تعالى في باب الشرب من النهر، وإنما اختلفوا في أن رجوعهم إلى بلدهم كان قبل عبور النهر أو بعده، وفيه قولان الأول: أنه ما عبر معه إلا المطيع، واحتج هذا القائل بأمور الأول: أن الله تعالى قال: {فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه} فالمراد بقوله: {الذين آمَنُواْ مَعَهُ} الذين وافقوه في تلك الطاعة، فلما ذكر الله تعالى كل العسكر، ثم خص المطيعين بأنهم عبروا النهر، علمنا أنه ما عبر النهر أحد إلا المطيعين.
الحجة الثانية:
الآية المتقدمة وهي قوله تعالى حكاية عن طالوت {فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّي} أي ليس من أصحابي في سفري، كالرجل الذي يقول لغيره: لست أنت منا في هذا الأمر، قال: ومعنى {فَشَرِبُواْ مِنْهُ} أي ليتسببوا به إلى الرجوع، وذلك لفساد دينهم وقلبهم.
الحجة الثالثة:
أن المقصود من هذا الابتلاء أن يتميز المطيع عن العاصي والمتمرد، حتى يصرفهم عن نفسه ويردهم قبل أن يرتدوا عند حضور العدو، وإذا كان المقصود من هذا الابتلاء ليس إلا هذا المعنى كان الظاهر أنه صرفهم عن نفسه في ذلك الوقت وما أذن لهم في عبور النهر.
القول الثاني: أنه استصحب كل جنوده وكلهم عبروا النهر واعتمدوا في إثبات هذا القول على قوله تعالى حكاية عن قوم طالوت {قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا اليوم بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ} ومعلوم أن هذا الكلام لا يليق بالمؤمن المنقاد لأمر ربه، بل لا يصدر إلا عن المنافق أو الفاسق، وهذه الحجة ضعيفة، وبيان ضعفها من وجوه أحدها: يحتمل أن يقال: إن طالوت لما عزم على مجاوزة النهر وتخلف الأكثرون ذكر المتخلفون أن عذرنا في هذا التخلف أنه لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده فنحن معذورون في هذا التخلف، أقصى ما في الباب أن يقال: إن الفاء في قوله: {فَلَمَّا جَاوَزَهُ} تقتضي أن يكون قولهم: {لاَ طَاقَةَ لَنَا اليوم بِجَالُوتَ} إنما وقع بعد المجاوزة، إلا أنا نقول يحتمل أن يقال: إن طالوت والمؤمنين لما جاوزوا النهر ورأوا القوم تخلفوا وما جاوزوه، سألهم عن سبب التخلف فذكروا ذلك، وما كان النهر في العظم بحيث يمنع من المكالمة، ويحتمل أن يكون المراد بالمجاوزة قرب حصول المجاوزة، وعلى هذا التقدير فالإشكال أيضًا زائل.
والجواب الثاني: أنه يحتمل أن يقال: المؤمنون الذين عبروا النهر كانوا فريقين: بعضهم ممن يحب الحياة ويكره الموت وكان الخوف والجزع غالبًا على طبعه، ومنهم من كان شجاعًا قوي القلب لا يبالي بالموت في طاعة الله تعالى.
فالقسم الأول: هم الذين قالوا: {لاَ طَاقَةَ لَنَا اليوم}.
والقسم الثاني: هم الذين أجابوا بقولهم: {كَم مّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً}.
والجواب الثالث: يحتمل أن يقال: القسم الأول من المؤمنين لما شاهدوا قلة عسكرهم قالوا: {لاَ طَاقَةَ لَنَا اليوم بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ} فلابد أن نوطن أنفسنا على القتل، لأنه لا سبيل إلى الفرار من أمر الله، والقسم الثاني قالوا: لا نوطن أنفسنا بل نرجو من الله الفتح والظفر، فكان غرض الأولين الترغيب في الشهادة والفوز بالجنة، وغرض الفريق الثاني الترغيب في طلب الفتح والنصرة، وعلى هذا التقدير لا يكون في واحد من القولين ما ينقض الآخر. اهـ.

.قال البقاعي:

ولما أخبر عنهم بهذا القول نبه على أنه لا ينبغي أن يصدر ممن يظن أن أجله مقدر لا يزيد بالجبن والإحجام ولا ينقص بالجرأة والإقدام وأنه يلقى الله فيجازيه على عمله وأن النصر من الله لا بالقوة والعدد فقال: {قال الذين يظنون} أي يعلمون ولكنه عبر بالظن لما ذكر {أنهم ملاقوا الله} أي الذي له الجلال والإكرام إشارة إلى أنه يكفي في الخوف من الله والرجاء له الظن لأنه يوجب فرار العقل مما يظن أنه يكرهه سبحانه وتعالى إنقاذًا لنفسه من الهلاك بذلك كما أسرف هؤلاء في الشرب لظن الهلاك بعدمه ورجعوا لظن الهلاك باللقاء؛ ويجوز أن يكون الظن على بابه ويأول اللقاء بالحالة الحسنة {كم من فئة قليلة} كما كان في هذه الأمة في يوم بدر {غلبت فئة كثيرة} ثم نبه على أن سبب النصر الطاعة والذكر لله بقوله: {بإذن الله} أي بتمكين الذي لا كفوء له، فلا ينبغي لمن علم ذلك أن يفتر عن ذكره ويرضى بقضائه.
ثم بين أن ملاك ذلك كله الصبر بقوله: {والله} أي الملك الأعظم {مع الصابرين} ولا يخذل من كان معه. اهـ.

.قال أبو السعود:

{الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُلاَقُواْ الله} قيل: أي الخُلَّصُ منهم الذين يوقنون بلقاءِ الله تعالى بالبعث ويتوقّعون ثوابَه، وإفرادُهم بذلك الوصف لا ينافي إيمانَ الباقين فإن درجاتِ المؤمنين في التيقن والتوقع مُتفاوتةٌ أو الذين يعلمون أنهم يُستشهدون عما قريب فيلقَوْن الله تعالى، وقيل: الموصولُ عبارةٌ عن المؤمنين كافةً والضميرُ في قالوا للمنخذِلين عنهم كأنهم قالوه اعتذارًا عن التخلُّف والنهرُ بينهما. اهـ.

.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {قَالَ الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُلاَقُواْ الله} ففيه سؤال، وهو أنه تعالى لم جعلهم ظانين ولم يجعلهم حازمين؟
وجوابه: أن السبب فيه أمور:
الأول: وهو قول قتادة: أن المراد من لقاء الله الموت، قال عليه الصلاة والسلام: «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه» وهؤلاء المؤمنون لما وطنوا أنفسهم على القتل، وغلب على ظنونهم أنهم لا يتخلصون من الموت، لا جرم قيل في صفتهم: إنهم يظنون أنهم ملاقوا الله.
الثاني: {الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُلاَقُواْ الله} أي ملاقوا ثواب الله بسبب هذه الطاعة، وذلك لأن أحدًا لا يعلم عاقبة أمره، فلابد أن يكون ظانًا راجيًا وإن بلغ في الطاعة أبلغ الأمر، إلا من أخبر الله بعاقبة أمره، وهذا قول أبي مسلم وهو حسن.
الوجه الثالث: أن يكون المعنى: قال الذين يظنون أنهم ملاقوا طاعة الله، وذلك لأن الإنسان لا يمكنه أن يكون قاطعًا بأن هذا العمل الذي عمله طاعة، لأنه ربما أتى فيه بشيء من الرياء والسمعة، ولا يكون بنية خالصة فحيئذٍ لا يكون الفعل طاعة، إنما الممكن فيه أن يظن أنه أتى به على نعت الطاعة والإخلاص.
الوجه الرابع: أنا ذكرنا في تفسير قوله تعالى: {أَن يَأْتِيَكُمُ التابوت فِيهِ سَكِينَةٌ مّن رَّبّكُمْ} أن المراد بالسكينة على قول بعض المفسرين أنه كان في التابوت كتب إلهية نازلة على الأنبياء المتقدمين، دالة على حصول النصر والظفر لطالوت وجنوده، ولكنه ما كان في تلك الكتب أن النصر والظفر يحصل في المرة الأولى أو بعدها، فقوله: {الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُلاَقُواْ الله} يعني الذين يظنون أنهم ملاقوا وعد الله بالظفر، وإنما جعله ظنًا لا يقينًا لأن حصوله في الجملة وإن كان قطعًا إلا أن حصوله في المرة الأولى ما كان إلا على سبيل حسن الظن.
الوجه الخامس: قال كثير من المفسرين: المراد بقوله: {يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُلاَقُواْ الله} أنهم يعلمون ويوقنون، إلا أنه أطلق لفظ الظن على اليقين على سبيل المجاز لما بين الظن واليقين من المشابهة في تأكد الاعتقاد. اهـ.

.قال القرطبي:

ويجوز أن يكون شَكًّا لا علمًا، أي قال الذين يتوَهّمون أنهم يُقْتلون مع طالوت فيلقون الله شهداء، فوقع الشك في القتل. اهـ.

.قال الفخر:

أما قوله: {كَم مّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله}.
المراد منه تقوية قلوب الذين قالوا: {لاَ طَاقَةَ لَنَا اليوم بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ} والمعنى أنه لا عبرة بكثرة العدد إنما العبرة بالتأييد الإلهي، والنصر السماوي، فإذا جاءت الدولة فلا مضرة في القلة والذلة، وإذا جاءت المحنة فلا منفعة في كثرة العدد والعدة. اهـ.

.قال القرطبي:

وفي قولهم رضي الله عنهم: {كم من فئة قليلة} الآية، تحريضٌ على القتال واستشعارٌ للصبر واقتداءٌ بمن صدّق ربه.
قلت: هكذا يجب علينا نحن أن نفعل؟ لكن الأعمال القبيحة والنيات الفاسدة منعت من ذلك حتى ينكسر العدد الكبير منا قدّام اليسير من العدوّ كما شاهدناه غير مرة، وذلك بما كسبت أيدينا! وفي البخاريّ: وقال أبو الدرداء: إنما تقاتلون بأعمالكم.
وفيه مُسْند أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم» فالأعمال فاسدة والضعفاء مُهْمَلون والصبر قليل والاعتماد ضعيف والتقوى زائلة! قال الله تعالى: {اصبروا وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ واتقوا الله} [آل عمران: 200] وقال: {وَعَلَى الله فتوكلوا} [المائدة: 23] وقال: {إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا والذين هُم مُّحْسِنُونَ} [النحل: 128] وقال: {وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ} [الحج: 40] وقال: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فاثبتوا واذكروا الله كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ} [الأنفال: 45].
فهذه أسباب النصر وشروطه وهي معدومة عندنا غير موجودة فينا، فإنا لله وإنا إليه راجعون على ما أصابنا وحلَّ بنا! بل لم يبق من الإسلام إلى ذكره، ولا من الدِّين إلاّ رَسْمُه لظهور الفساد ولكثرة الطغيان وقلة الرشاد حتى استولى العدوّ شرقًا وغربًا برًا وبحرًا، وعَمّت الفتن وعظُمت المحَن ولا عاصم إلا من رحِم!. اهـ.

.قال أبو السعود:

{كَم مّن فِئَةٍ} أي فِرْقة وجماعة من الناس من فأَوْتُ رأسَه إذا شققتها أو من فاء إليه إذا رجَع فوزنُها على الأول فِعةٌ وعلى الثاني فِلَةٌ {قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً} وكم خبرية كانت أو استفهامية مفيدةٌ للتكثير وهي في حيز الرفعِ بالابتداء خبرُها غلبتْ أي كثيرٌ من الفئات القليلةِ غلبت الفئاتِ الكثيرةَ {بِإِذُنِ الله} أي بحُكمه وتيسيرِه فإن دورانَ كافةِ الأمور على مشيئته تعالى فلا يذِلُّ من نصرَه وإن قل عددُه ولا يعِزُّ مَنْ خَذله وإن كثُرت أسبابُه وعُددُه وقد روُعيَ في الجواب نُكتةٌ بديعة حيث لم يقُلْ أطاقت بفئة كثيرةٍ حسبما وقع في كلام أصحابهم مبالغةً في رد مقالتِهم وتسكينِ قلوبهم، وهذا كما ترى جواب ناشئ من كمال ثقتِهم بنصر الله تعالى وتوفيقه ولا دخل في ذلك لظن لقاءِ الله تعالى بالبعث لاسيما بالاستشهاد فإن العلمَ به ربما يورِثُ اليأسَ من الغَلَبة ولا لتوقُّع ثوابِه تعالى ولا ريب في أن ما ذُكر في حيز الصلةِ ينبغي أن يكونَ مدارًا للحكم الواردِ على الموصول فلا أقلَّ من أن يكون وصفًا ملائمًا له، فلعل المرادَ بلقائه تعالى لقاءُ نصرِه وتأييدُه عُبر عنه بذلك مبالغةً كما عُبر عن مقارَنةِ نصرِه تعالى لمعيَّته سبحانه حيث قيل: {والله مَعَ الصابرين} فإن المرادَ به معيّةُ نصرِه وتوفيقِه حتمًا، وحملُها على المعية بالإثابة كما فعل يأباه أنهم إنما قالوه تتميمًا لجوابهم وتأييدًا له بطريق الاعتراضِ التذييليِّ تشجيعًا لأصحابهم وتثبيتًا لهم على الصبر المؤدي إلى الغَلَبة، ولا تعلّقَ له بما ذكر من المعية بالإثابة قطعًا وكذا الحالُ إذا جُعل ذلك ابتداءَ كلامٍ من جهة الله تعالى جيء به تقريرًا لكلامهم، والمعنى قال الذين يظنون أو يعلمون من جهة النبي أو من جهة التابوتِ والسكينة أنهم ملاقوا نصرِ الله العزيزِ: {كم من فئةٍ قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله تعالى} فنحن أيضًا نغلِبُ جالوتَ وجنودَه، وإيرادُ خبرِ أن اسمًا مع أن اللقاءَ مستقبلٌ للدَلالة على تقرره وتحققه. اهـ.